د. فهد محمد بن جمعه
2009
تسعى الدولة السعودية دائما إلى تقديم أفضل الخدمات لأفراد مجتمعها وتحرص
على تحقيق المزيد من الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية لهم سواء كانت مباشرة
من خلال مؤسساتها الحكومية أو غير مباشرة من خلال مجلس الحوار الوطني الذي
يرصد الأولويات التي يحتاج إليها المجتمع ويرفعها إلى الجهات المعنية,
ليتم بلورتها في قرارات تخدم المصلحة العامة. فكان تخصيص بعض الشركات التي
تملكها الدولة وزيادة رواتب موظفيها بنسبه 15 في المائة شاهدا على صدق
نوايا هذه الدولة التي تضع نصب عينيها أهمية خدمة المواطن التي لا تقيسها
بتكلفتها المالية بل برضا المواطن عن مستوى من الحياة المعيشية تكفل له
حياة كريمة. وهذا لا يعني أنه لا ينبغي على الدولة أن تبحث عن أفضل الطرق
والوسائل لتخفيض تكاليف الخدمات التي تقدمها بشرط ألا تضعف نوعية هذه
الخدمات أو تستثني أحدا من مواطنيها. وكما أن صانعي القرارات يصدقون في
قانون (باريتو) بأن أفضل القرارات هي التي تضع أغلبية المجتمع في حالة
اقتصادية أو اجتماعية أفضل مما كانوا عليها بينما لا تضع الأقلية في حالة
أسوأ مما كانوا عليه, فإن قانونا مثل هذا تحاول الدول أن تستفيد منه في
توزيع خدماتها بقصد العدالة الممكنة في ظل الموارد الاقتصادية المحدودة,
والسعودية دائما تحاول أن تتوافق معه عند تقديم خدماتها في حدود إمكانياتها
الاقتصادية التي يضيق عليها الخناق كلما زاد الطلب عليها مع تزايد معدل
النمو السكاني المطرد كل عام.
إن تخصيص الخدمة البريدية لها مغزى اقتصادي واجتماعي وأهداف استراتيجية
تهدف إلى رفع الكفاءة والفعالية لتلك الخدمة, وهذا ما يدعونا إلى أن نتساءل
ما التخصيص الأفضل الذي سيحوز على رضا المواطنين واقتناعهم بأنه سيرفع من
جوده تلك الخدمة؟ وهل يكون التخصيص كاملا تتولى أمره شركة خاصة وتتقاضى
أسعارا معينة على كل خدمة تقدمها؟ أم يكون التخصيص بتعاقد مع شركات توفر
تلك الخدمات وتقوم الدولة بتمويلها من أجل تقليص تكاليفها وتحسين أدائها؟.
ولكن قبل الإجابة عن تلك الأسئلة لا بد أن أنوه بما يقوم به الدكتور محمد
بنتن رئيس مؤسسة البريد السعودي من تحديث لنظام البريد الحالي واستغلال
التقنية الحديثة التي سترفع من مستوى الخدمة وتسهل من متابعتها وسرعة
وصولها من المرسل إلى المستلم بكل دقة ممكنة واحترافية وهذا شيئا نفتخر به
جميعا. فقد حضرت محاضرة ألقاها الدكتور محمد بنتن في مقر "الاقتصادية" في
20/2/2006, استعرض فيها هيكلة البريد وتخصيص مرافقه إلى أقسام مستقلة
ولكنها مترابطة يتم إدارتها بواسطة شركات القطاع الخاص وتخضع لمراقبة
الإدارة العامة للبريد, ونظام التقسيم والترقيم التنازلي من المنطقة إلى
المربع البريدي مستخدما التقنية المتطورة من (ستل لايت) لإنجازات ومتابعة
العمليات البريدية بكل دقة وسرعة ممكنة. وطبقا لهذا النظام الرقمي الجديد
فقد تم وضع صندوق بريدي على كل بوابة منزل وما زالت العملية مستمرة لتكون
هناك تغطية متكاملة لجميع مدن وأحياء المملكة, مع أن هناك مأخذا على ذلك
النظام الذي من المفروض أن يتم عن طريق الأمانة العامة للبلديات لأنها
المسؤولة عن ترقيم المنازل وإذا ما كان هناك تقصير ناتج عن سوء التخطيط فمن
خلال التنسيق بين إدارة البريد والأمانة يمكن الوصول إلى رقم موحد بدلا من
أن يكون لكل إدارة رقم خاص بها. ما يدل على ضعف التنسيق بين تلك الإدارات
الحكومية ويؤدي إلى ازدواجية التكاليف التي تصرف من الميزانية العامة.
فرغم أن التقنية المتقدمة أصبحت ضرورة ورافدا من روافد هذا العصر وتؤدي إلى
تحسين مستوى الخدمات وتقليص تكاليفها في الأجل الطويل إلا أن إدارة البريد
تريد أن تحمل كل مواطن يرغب في استخدام تلك الصناديق تكاليف تأسيسية
وسنوية قدرها 300 ريال مبررة ذلك بأنه لا بد من تطوير الخدمات البريدية
لمواكبة تغيرات العصر مع ظهور بوادر الحكومة إلكترونية. ولكن هذا التطور قد
جاء متأخرا بعد أن انتشر استعمال الإنترنت والرسائل القصيرة التي لا
يستغرق إرسالها إلا بعض الثواني من الوقت ما يبقي أصحاب الدخل المحدود ومن
هم أقل تعليما المستخدم الأكبر للرسائل البريدية فلن يقبلوا تحمل مثل تلك
التكاليف. وهذا لا يدع مجالا للاستغراب عندما ذكره رئيس البريد السعودي أن
متوسط عدد الرسائل للفرد السعودي عشر رسائل سنويا, وهذا لا شك أنه معدل
متدنٍ للغاية عندما يتم مقارنته بمعدل الرسائل في الولايات الأمريكية الذي
بلغ 650 رسالة للفرد الأمريكي طبقا للبريد الموحد الأمريكي. إذاً ما الحاجة
إلى تلك الصناديق البريدية إذا لم يرتفع معدل الرسائل في ظل الظروف
الراهنة حتى لا تصبح شبه مهجورة وأنا لا ألغي أهميتها؟ فإنه يمكن زيادة
معدل الرسائل التي ستصل أو تغادر صندوق بريدك في حالة تفعيل الحكومة
إلكترونية وتوزيع فواتير الخدمات من خلال تلك الصناديق التي سيكون توافرها
شرطا أساسيا لحصولك على تلك الخدمات, وكذلك من خلال زيادة معدل الرسائل
والدعاية التجارية في ظل الانفتاح التجاري العالمي. إن الأمر المهم الذي
يحدد مدى نجاح استراتيجية البريد الجديدة من عدمها هو مدى تقبل المواطن
لها, لأنه من المتوقع ألا يشارك معظمهم في تلك الصناديق حيث إن الفئة
القادرة على دفع تلك التكاليف ليس من عادتها أن تتعامل مع الرسائل البريدية
في معاملاتها الشخصية, بعد أن توافرت لهم الوسائل الأخرى وبصوت وصورة
ووسائل البريد السريعة ذات السمعة المعروفة. وهذا سيعرض البريد إلى خسارة
كبيرة, أولا تكلفة تلك الصناديق غير المستغلة, وثانيا تكلفة تلك التقنية
المتطورة التي قد تكون تكلفتها أعلى من مستوى الخدمة. ليس هذا فقط, بل قد
يضع إدارة البريد في موقف لا تحسد عليه عندما يتم تفعيل الحكومة
الإلكترونية وتتعاقد شركات الخدمات مع البريد السعودي على توصيل خدماتها
إلى زبائنها دون أن يشترك هؤلاء المواطنون في تلك الصناديق. وأنا أتفهم
لماذا البريد السعودي فرض أسعارا ثابتة لتخوفه من عدم تغطية تكاليفه
الثابتة والتشغيلية خلال الفترة الاستثمارية للمشروع, ولكن المشكلة أن تلك
الأسعار لن تكون مقبولة اجتماعيا وفي النهاية نعود إلى نقطة البداية.
لذا اقترح على إدارة البريد السعودي أن يكون التخصيص بالتعاقد مع بعض
الشركات الخاصة وتقديم خدمة تلك الصناديق إلى أصحاب المساكن الخاصة مجانيا,
على أن يتم تمويل تلك الخدمات من خلال زيادة أسعار الطوابع المحلية
والدولية وتأجير الصناديق لأصحاب المساكن والأنشطة التجارية وتوسع في
استثمارها من خلال تنويع أحجام الصناديق وتوفير خدمات أخرى توفر المبالغ
اللازمة لتشغيل عمليات البريد بشكل مقبول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق