إن التقرير الذي نشرته صحيفة "عكاظ", 7/10/2006، وكان مصدره وزارة الاقتصاد والتخطيط يضع النقاط على الحروف ويحكي قصة طويلة تجاوز عمرها 36 عاما ولم تنته كتابة سطورها. إنها قصة المعلومات المفقودة كما قلت سابقا بأن تخطيطنا فيه عجز وأخطاء كثيرة رغم ما تم إنجازه في عدة مجالات, لأن التخطيط السليم هو الذي ينبثق من خطة رئيسية Master Plan تحدد المشاكل التاريخية، وتضع الاختيارات التي تشمل المتغيرات الجديدة والمتوقعة على أسس علمية مصدرها المعلومات الدقيقة. وأعني بالدقيقة أن نسبة الثقة تعادل 95 في المائة إحصائيا عند نسبة حرية أو خطأ 5 في المائة ولا تتجاوز 10 في المائة، على أن تكون العينة مختارة عشوائيا وممثلة لمجتمعها. هل تعلم أن أول خطة خمسية ذات استراتيجية بعيدة المدى هي الخطة الثامنة الحالية ذات الأهداف العريضة التي تعكس أهم القضايا القائمة بعد أن تجاهلت الخطط الخمسية السابقة هذه الاستراتيجية. وهذا ما جعلني أقول إنها خطط خاطئة في تحديد نتائج أهدافها في غياب الإحصائيات الدقيقة الأساسية والمتوقعة طبقا للأساليب العلمية المتبعة في إعداد خطوات الخطة المستقبلية. وأكد تقرير الوزارة أنه يوجد لديها عجز في عدد الموظفين حيث بلغ عددهم 250 موظفا (نخبة من المخططين) وعجز في ميزانيتها التي بلغت 60 مليون ريال، ما حال بينها وبين أداء بعض مهامها وأهدافها رغم أنها تبذل قصارى جهدها. كيف لا وأهم عنصرين للقيام بعملية التخطيط مهمشان. إن عدم نفي الوزارة صحة هذا التقرير حتى الآن اعتراف ضمني بصحته. وقد اتصل علي قبل استقلال الوزارة مدير ما يشكرني على مقال كتبته عن غياب الأرقام الإحصائية الدقيقة، لأن المشكلة قديمة وليست جديدة، وهذا نص ما قاله لي حرفيا " أنت محق في طرحك فلا يوجد لدينا عدد كاف من الموظفين الأكفاء والمتخصصين حتى نتمكن من أداء عملنا". وقد يكون تسريب ذلك التقرير مقصودا بعد أن شعرت الوزارة أن المسؤولية كبيرة وتفاقمت المشاكل وأصبحت غير قادرة على مواكبة الإصلاحات الاقتصادية والتغيرات السريعة وتحسين أدائها، وأن يديها مكبلتان من قبل وزارة المالية التي نفى وزيرها الدكتور إبراهيم العساف صحة ذلك "الاقتصادية" 1/11/2006. إن الرسالة قد تم تبليغها سواء كان ذلك تسريبا أو تصريحا لو كان مبدأ الإفصاح والشفافية متبعا في الإدارات الحكومية لرفع كفاءاتها وكشف أخطاءها وأبعد شبح الفساد الإداري عنها.
إن علينا أن نتفحص مقالة وزير التخطيط خالد بن محمد القصيبي في ندوة الرؤية المستقبلية للاقتصاد السعودي حتى عام 1440هـ (2020م)، والتي انعقدت خلال الفترة من 19-23/10/2002م، حيث ركز على جودة المعلومات ودقتها:"ويتطلب تجاوز تحديات فجوة التنفيذ والقدرة على تحقيق النجاح المأمول صياغة الحوافز اللازمة لضمان الالتزام الدقيق بمعدلات التنفيذ. مما يتطلب تهيئة وتطوير الهياكل الإدارية على نحو يمكنها من المساعدة على تحقيق الرؤية المستقبلية وتوجهاتها الاستراتيجية. مع الأخذ في الاعتبار أن جودة التنفيذ تعتمد اعتماداً مباشراً على جودة المعلومات المتدفقة بين مختلف الجهات المعنية بتنفيذ الخطة، وهو ما يتطلب عناية فائقة لضمان قيام نظام فاعل وحديث لتوفير المعلومات وتدفقها بالدقة اللازمة والشفافية المطلوبة وفقاً للمعدلات والمقاييس العالمية". وفي الندوة نفسها أوصى الدكتور عبد الرحمن الشقاوي, مدير عام معهد الإدارة العامة بناءً على استنتاجاته من أجل تحقيق أداء أفضل في القطاع الحكومي بأن يكون فريق علمي من أجل دقة التخطيط وتدعيم التوجه القائم لتنويع مصادر الدخل القومي في المملكة، وذلك عن طريق تبني وزارة التخطيط تشكيل وتفريغ فريق علمي متعدد التأهيل والخبرات للقيام ببحث رئيسي حول ما تم وما ينبغي إتمامه نحو تنويع شامل لمصادر الدخل في المملكة، وأن يبنى على ذلك وضـع خطة وطنية مرحلية وآليـات محـددة لتنويع مصادر الدخل خلال فترة مقبلة يتم تحديدها في ضوء الدراسة.
إننا اليوم في أمسّ الحاجة أكثر مما مضى إلى التخطيط السليم المؤسس على أرقام إحصائية دقيقة تعكس الواقع الاقتصادي والاجتماعي الحالي والمستقبلي في إطار النمو السكاني وزيادة الطلب على الخدمات العامة، حتى لا تتراكم الاختناقات المالية والتنفيذية التي تنقص من الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية ما يتعارض مع أهداف السلطة العليا ويهدم قواعد الخطط الخمسية إذا ما تم بناؤها على مقاييس ومعايير تخطيطية نعرفها نحن المتخصصين في التخطيط الإقليمي من أجل حل القضايا الاقتصادية والاجتماعية، الذي هو الهدف الأساسي من التخطيط Bottom of Form. لكن كيف تتوافر مقومات التخطيط السليم في غياب معظم الإحصائيات الدقيقة بجميع أنواعها الأولية ثم الأساسية؟ ألا يكفي مرور 36 عاما من تنفيذ الخطط الخمسية، وما زلنا نعاني من مشاكل تخطيطية عدة. وأنا هنا أشيد بجرأة هذا التقرير الذي يمثل خطوة صحيحة إذا ما قصدت منه الوزارة إصلاح ذاتها وسد الفجوة بين ما هو متوقع من عملية التخطيط وإنجازاته إذا ما توافرت لديها الموارد البشرية والمالية والمشاركة الفاعلة من قبل الجهات الحكومية الأخرى. ولكن بالتأكيد لكي يكون دورها فاعلا وتتحمل مسؤولية التخطيط على مستوى المملكة تحتاج إلى سلطات أقوى تمكنها من التعامل مع الوزارات الأخرى لإعداد خططها طبقا لخطتها العامة, بغض النظر عن المشاركين الذين تستشيرهم الوزارة في بعض أجزاء الخطة, لأن المسؤولية تقع على عاتق الوزارة وليس على مَن شارك في الخطة.
إن إدخال المتغيرات التي تؤثر في الخطط إيجابيا أو سلبيا ليس أمرا اختياريا نستطيع أن نعزل أنفسنا عنه حتى لو رغبنا في ذلك, وإنما علينا أن نعرف كيف نتعامل معها ونستثمر إيجابياتها ونتجنب سلبياتها أو على الأقل نحد من أخطارها. إن علينا ألا نخلط بين التخطيط وشواهد التنمية، فهما شيئان قد يتفقان أو يختلفان جزئيا أو كليا، ولكن السؤال الصحيح: هل تلك الشواهد تتفق مع ما خططنا له؟ إذا نحن نحتاج إلى أرقام دقيقة وتقييم علمي وليس شواهد فقط، لأن الأهم هو الجوهر وليس الشكل. وأقصد بالجوهر أن تصبح الخطط بمثابة حلول للقضايا التي تؤرقنا قبل أن تستفحل، هذا هو التخطيط السليم. وإذا ما نظرت إلى الجدول التالي الذي ورد ضمن الخطة الخمسية الثامنة على أنها تستهدف متوسط معدل نمو في إجمالي الناتج المحلي قدره (6.6 في المائة) سنويا على مدى زمن الاستراتيجية (20 عاما), فإنك ستلاحظ أن معدلات النمو في تصاعد على طول الفترة الزمنية حتى تصل إلى أعلى مستوى لها خلال الخطة الحادية عشرة، ما يجعلنا نتساءل هنا: هل فعلا هذه الأرقام تم تقديرها عند أقصى قدر من الدقة (95 في المائة ثقة)؟ لأنه في الحقيقة هذه الأرقام جيدة لكن لم أر شرحا كافيا يؤكد لنا صرامة الفرضيات التي قدرت على أساسها مخرجات تلك الاستراتيجية التي تزعم أن الاقتصاد السعودي سيتحول من اقتصاد السلعة الواحدة إلى اقتصاد السلع المتنوعة قبل نهاية عام 2024. بمعنى آخر إن معدل نمو القطاع غير النفطي سيتجاوز معدل نمو القطاع النفطي، وهذا غير واضح في سلوك تلك المعدلات التقديرية، وإلا أصبح متوسطها أعلى بكثير من ذلك في ظل توقعات نمو الطلب على النفط وارتفاع أسعاره. وكما يظهر لنا من الجدول أن نمو الدخل الفردي عائد بشكل ملحوظ على انخفاض معدل نمو السكان وليس نتيجة النمو الاقتصادي. وتصعب المقارنة بين تلك الأرقام لتفاوت نطاق سنوات المقارنة، وعدم الأخذ في الحسبان انعكاسات الإنفاق الحكومي ونمو الاستثمارات على قدرة السوق المحلية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق