الصحافة من أهم الوسائل إذا لم تكن الوسيلة الوحيدة التي دائما تعمل على تقييم وتحليل الأحداث وإيصال الخبر إلى أفراد المجتمع على جميع فئاتهم.عندما يفتقر مجتمعنا إلى مراكز البحوث العلمية, الإحصاءات وجمع البيانات والمعلومات الدقيقة التي يمكن أن نستشف منها حالة الاقتصاد والاستثمار وقضايا المجتمع ونكون قادرين على التعامل مع متغيراتها الظاهرة والخفية إما لدراستها وإما لصنع القرارات المناسبة التي تحتوي على تلك الظواهر غير المرغوب فيها وتعزز ما هو مرغوب منها.
إن الصحافة السعودية هذه الأيام بدأت تتألق في سماء الخبر والحدث المحلي, ومرآة تعكس القضايا التي تؤرقنا في حياتنا المعاصرة, وتبحر في بحار ما وراء الكواليس لتنقل لنا مفردات جديدة لم تكن موجودة في قاموس مجتمعنا أو أنها كانت ضائعة بين صفحاته دون أن يجدها صاحب القرار حتى يفسر جميع الجوانب التنظيمية والقانونية والمالية، إما للاستفادة من إيجابياتها وتفعيلها وإما لتقليص سلبياتها بعد تقصي الحقائق ثم وضع الحلول المناسبة للقضاء عليها أو تحويلها إلى ما يفيد المجتمع ككل.
إن الصحافة أظهرت لنا عينات مختارة عشوائيا فنراها تارة تعرض مشكلة السعودي الذي وظف امرأتين في مطعمه دعما لتوظيف المرأة السعودية وانتهى بدلا من مكافأتهما بالجلد 90 جلدة، وتارة أخرى تعرض لنا قضيه إبراهيم الأحمد وبرج الجوال المتهم في إصابته بسرطان اللوكيميا.
إن المجتمع متعطش لمثل تلك المشاكل المتراكمة في مجتمعنا التي لم يتم كشف النقاب عنها عقودا طويلة, إنها فرصة الصحافة لتغرد في سماء المجتمع وتكشف بعيونها وتدون بكتاباتها خطوطا عريضة تشهد على خطورة الحدث, بل إنها تحقق فيه وتعرضه على الملأ بصوت وصورة لمناقشته وإيصال الخبر إلى المواطنين الذين غاب عنهم مثل تلك الأخبار عقودا, على أن تتصدى لها السلطة العليا إما لدرء فساده وإما لمعاقبة المسؤول المقصر في أداء عمله ويخالف ما ينبغي عمله قانونيا ونظاميا. هكذا أصبح دور الصحافة دورا بناء فهي تستطيع أن تسأل وتقابل وتحاور وتشارك المواطن في رأيه وتقيم تفاعله مع الخبر لقياس مدى تأثيره وتجاوبه معه من عدمه، فلا يمكن بعد اليوم أن يصمت المقصر في خدمه المواطنين دون أن تنهشه الصحافة بأنيابها, فلو حاول الهرب فلن يستطيع أن يغطي على الحقيقة ويتستر عليها، لأن أمره أصبح مكشوفا ومكتوبا وموضوعا للحديث والنقاش, فإما أن يقوم بمسؤوليته أو يدع غيره يقوم به. هكذا جاءت الصحافة لتعلن على المكشوف ما أمرت به السلطة العليا تنفيذه من إصلاحات اقتصادية واجتماعية وعندما لا يتم تنفيذها على مستوى السلطات المتوسطة والدنيا لتنعكس إنجازاتها على أرض الواقع الذي يصور مدى رضا المواطنين عنها أو استيائهم بعد بروز مثل تلك الظواهر التي نقول عنها إنها غريبة على مجتمعنا، وما هي غريبة، إنما كانت مبطنة ومحجمة عن أنظار السلطة العليا التي لم تطلعها عليها لجان المراقبة والمتابعة، لأنها كانت مشغولة في قضايا أخرى قد لا تهم المجتمع بشيء، فمجتمعنا يحتاج إلى صحافة ذات شفافية ومسؤولية حتى تنال الوصاية على قضايا المجتمع وبحثها في إطار تسوده الإيجابية وتدعمه الحقائق وتسانده الحلول الممكنة في حدود مواردنا الاقتصادية والبشرية. فإنه من الممكن أن تصبح الصحافة السعودية بديلا لتقارير المحاسبة والمسؤولية التي يكاد مجتمعنا محروما منها في جميع إداراته الحكومية، فلم نر في أغلب الحالات تطبيق هذا المبدأ وزراعته في أرض خصبة لا تنمو فيها أشجار البيروقراطية والمراوغة، بل يعكس أهداف وخطط التنمية الخمسية ويسقي بمائه العذب جذور عمليات الإصلاح حتى تظهر الفروع قوية وشامخة لا تستطيع أن تتسلقها أعشاب الفساد الضارة ولا تجتذها عوامل التعرية بعد أن فشل هو وذاك في مواجهه شكاوى وتساؤل المواطنين عندما يقولون أين ذهب هذا وهذا؟ ولماذا لم يتم تنفيذ هذا وهذا؟
إن دور الرقابة الصارمة على المستوى التطبيقي والتنفيذي ما زال غائبا فلماذا لا ندع الصحافة تمارس دورها بشكل أوسع وبكل حرية حتى نتأكد أن أوامر وتوصيات السلطة العليا يتم تنفيذها وعلى أكمل وجه وفي إطار الجدول الزمني المخطط لها؟
إن الصحافة عندما يترك لها العنان ستنطلق نحو المواضيع التي تثير انتباه المسؤولين وتهم المواطنين وتكشف ملفات قديمة قد عفا الدهر عليها وتحتاج إلى من ينفض الغبار عنها ويسلط نور الإصلاح عليها ويعيد هيكلتها وتنظيمها من الجذور وليس من الفروع. هكذا تستطيع الصحافة أن تسلط الضوء على التناقضات بين قرارات القطاعات الحكومية, عندما تقدم الدولة ضمانات للبنوك من أجل دعم تلك البنوك لتقديم القروض لكل مستثمر سعودي يرغب في إقامة مشروع صغير أو متوسط, بينما لا يجد السعودي إلا عنصر المال ويكون عنصر العمالة غائبا ما يجعل تلك القروض دون فائدة واستثمارا غير مكتملة عناصره الإنتاجية. وعندما أردنا علاج البطالة النسائية ألبسناها قيودا وشروطا قلبت معادلة التوظيف رأسا على عقب, فأصبح من كان عاطلا ضحية ومن كان رابحا خاسرا, ولو طبقنا للغة اللوغاريتم لاستقامة تلك المعادلة المعوجة لكسرنا كل هذه الشروط والقيود على أن المعادلة غير المقيدة يسهل حلها وبطرق متعددة كل طريقة أفضل من الأخرى.
لقد اعتدنا في دراساتنا في الولايات الأمريكية أن نجعل من نيويورك تايمز مصدرا للمعلومات ومرجعا مهما عندما تفشل المصادر الأخرى في توفير المعلومات موضوع البحث, فهل يا ترى يتحول الحلم الصحافي إلى حقيقة وأن تكون صحفنا مصدرا ومرجعا نجد فيها المعلومة المراد فحصها، في ظل كسوف شمس البيانات والمعلومات وندرة الإحصاءات مع تعدد مراكزها ومواقعها الجذابة على شبكه الإنترنت التي تعرض بعض الأرقام والبيانات التي لا يمكن الاستفادة منها في وقتنا الحاضر ولا تساعدنا على تقييم ما يصدر من قرارات أو بحث ما يؤرقنا من قضايا اجتماعية قائمة، لأنها دائما مؤرخة في الماضي وكأن المقصود من ذلك تغييب العقل قبل أن تنعمي العين، فالمال متوفر والعقول الذكية والمتعلمة التي تم الاستثمار فيها أيضا متوفرة، فكيف يتم تصحيح هذا الخلل دون الصحافة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق