إن مستقبل التخطيط يقوم على دقة المعلومات والتقديرات وكما ذكرت سابقا لا نستطيع أن نحكم على التخطيط انه كان سليما من شواهد التنمية، بل أن نستخدم النماذج الرياضية التي تشخّص مدى توافق الإنجازات مع أهداف الخطة المتوقعة وليس العكس, فهل نستطيع أن نقول إن الشواهد هي المعيار الحقيقي لنجاح التخطيط في السنوات الماضية؟ طبعا لا، وأنا متأكد أن معظم المخططين يتفقون مع هذا الرأي إن لم يكن جميعهم. لأن التخطيط لدينا يختلف عن الإنجازات التي حققتها الدولة، والتي نشاهدها ونقدرها من بناء البنية التحتية وتوفير الخدمات العامة الضرورية التي زادت من رفاهية المواطن السعودي. لذا أقول مرة ثانية إن الخطط كانت خاطئة في معظم توقعاتها، ولا بد من تصحيحها بناء على المعلومات الدقيقة التي تحمي مستقبل هذا الوطن من أخطار المستقبل المحتملة والمجهولة, لأن التخطيط على المدى الطويل لبلد ما عدد سكانه عشرة ملايين نسمة وموارده محدودة يختلف تماما عن التخطيط لبلد آخر يتجاوز عدد سكانه وموارده البلد الأول. وقد كتبت الكثير عن هذا الموضوع قديما وحديثا في ("الاقتصادية" 24/3/2003) بعنوان "التخطيط إنجازات دون مجاملة" كتبت "إن التخطيط السليم للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في المديين القصير والطويل يعتمد على المعلومات قبل وقت التخطيط، وما هو متوقع في المستقبل عند نهاية كل مرحلة من مراحل ذلك التخطيط........ وأخيرا تنتبه وزارة التخطيط لتلك القضايا ثم تصرح أنها طلبت من الوزارات الأخرى مشاركتها في وضع خطط لمواجهة النمو السكاني المطرد الذي يعتبر تهديدا حقيقيا للاقتصاد السعودي إذا لم توضع له الخطط الشاملة وسرعة التجاوب مع ذلك المتغير وما يترتب عليه من نتائج سلبية, ولكن الوزارة قد تجاهلت أن النمو السكاني الحالي يمثل مشكلة في حد ذاته بعد 20 عاما في المستقبل، فلماذا لم يكن ذلك محسوبا في الخطط الخمسية وعمل خطط تنفيذية لمعالجة المشاكل السابقة والحالية".
إن ما نشاهده هذه الأيام من شوارع وجامعات في الشكل المادي لا يعني أن التخطيط كان ناجحا ولا يلغي وجود بعض الأخطاء الاستراتيجية عند إعداد تلك الخطط أو تنفيذها عندما لا يتم تأسيسها على أرقام دقيقة وسيناريوهات متوقع احتمالها. لذا نستطيع أن نقيم الخطط الخمسية إذا ما كانت مدروسة جيدا، وإذا ما كان تخطيطها سليما في نطاق ما كان متوقعاً منها، وذلك بمقارنة مخرجاتها وإنجازاتها مع أهدافها ومدى قدرتها على معالجة القضايا الحالية, وعلى سبيل المثال وليس الحصر، يمكن تحديد سعر النفط الأدنى الذي تعتمد عليه الميزانيات العامة في تقديراتها من أجل استكمال تنفيذ المشاريع العامة دون تعرضها إلى هزات مفاجئة، كما حصل خلال فترتي الثمانينيات والتسعينيات, تحديد النمو السكاني الذي يقيس ازدحام المدن وحجم الخدمات العامة, تحديد نسبة العمالة السنوية ودخلها حتى تتخذ الإجراءات اللازمة لتوسيع نطاق سوق العمل وتأهيل الشباب للانخراط فيه, تحديد نسب القبول في الجامعات حتى نوفر القدرة الاستيعابية لتلك الجامعات دون الحاجة إلى بناء جامعات جديدة. فإذا ما سلمنا أن التخطيط الذي يشمل التخطيط لأهم المرافق الحيوية في المجتمع بأنه كان سليما, فلماذا تزايد عجز الميزانيات العامة في العقدين الماضيين دون معرفة ذلك مسبقا، حتى أن بعض المشاريع التنموية قد تم تأخيره؟ إنك ستقول تدهورت أسعار النفط وهذا صحيح، ولكن هل باستطاعتنا التنبؤ بذلك؟ أنا متأكد أن خبراء النفط سيقولون لك نعم وعلى الأقل يخبرونك ما هو الأسوأ؟ ولماذا فاجأتنا البطالة الهيكلية التي هي هاجس كل مواطن الآن؟ ولماذا نقول إن المخرجات العلمية لا تتفق مع متطلبات سوق العمل؟ ولماذا مدننا تعاني من الازدحام المروري والتلوث الذي بدأ يغير ألوان مبانيها ونستنشق ثاني أكسيد كربونه بكثافة؟ ولماذا الهجرة المستمرة من الأرياف والقرى إلى المدن الكبيرة المكتظة بالسكان عندما همشت التنمية الموازنة بين المناطق؟ ولماذا كان الفقر متفشيا في بعض الأحياء وكان مسقطا من الخطط الخمسية؟ ولماذا تأخرنا في الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية؟ ولماذا جاء متأخرا إنشاء المجلس الاقتصادي الأعلى وهيئة الاستثمار وهيئة السياحة؟ إنها كلها أسئلة حقيقية لا يمكن لأي كاتب اقتصادي أن يشكك فيها وإنما طرحها يكشف النقاب عن ماض لا نريده أن يتكرر، وأن تأخذ وزارة الاقتصاد والتخطيط في حسبانها وبكل جدية جميع المتغيرات التي ستحدث في خطة 20 عاما المقبلة، بل أوصي أن تكون 40 عاما يتم تجديدها كل 20 عاما في المستقبل.
إن أقوى شاهد على عدم دقة خططنا أن يصبح المخطط الفاعل خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، بعد أن تبين له أن خططنا لم تؤد أكلها حسب ما هو متوقع منها، بل جاءت قاصرة وفي بعض الأحيان مخيبة للآمال, فأمر بالإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية التي لمسنا نتائجها وفي فترة قصيرة لا تقارن بمدة خططنا. فدعونا نعيد حسابات تلك الخطط الخمسية المقبلة بكل حسم ومسؤولية، ونعتبر تلك الإصلاحات القائمة هي نقطة الانطلاقة ونجند وزارة الاقتصاد والتخطيط بكل ما تحتاج إليه من موارد بشرية ومالية، لأنها العمود الفقري لهذا الاقتصاد والمجتمع. فما ورد في هذا التقرير المسرّب، وأقولها بكل صراحة وإخلاص لهذا الوطن، أنها مأساة حقيقية ولكن مع كثرة ما كتبناه عن تقصير وزارة التخطيط سابقا والاقتصاد والتخطيط لاحقا، إن التخطيط السليم هو مقوّمات كل اقتصاد ناجح, دفع الوزارة إلى تسريب مثل هذا التقرير، وأتوقع أن نرى المزيد من التسريبات من وزارة أخرى لأن الإصلاح مستمر، فنحن نعيش في زمن التخطيط والإنجازات التي يساندها مبدأ المسؤولية والمحاسبة. وأن على الدولة أن تدعم وزارة التخطيط حتى ولو بالتعاقد مع مكاتب استشارية عندما لا يتوافر لديها الموظفين السعوديين, لكي تبدأ بجمع المعلومات بكل دقة وحرص من أجل قراءة الحاضر والتنبؤ بالمستقبل ونعطيها قوة قانونية لتنفيذ أهداف خططها والإشراف عليها ومتابعتها مع الوزارات الأخرى لجمع المعلومات والإحصائيات التي تحتاج إليها من كل وزارة ضمن إطار زمني محدد يتم فيه التنسيق بين تلك المعلومات ووضعها في خطط شاملة يمكن تطبيقها والتقيد بأهدافها, بعد ذلك تقوم بمتابعة إنجازات تلك الخطط بصفة دورية وإعداد التقارير اللازمة وعرضها على مجلس الشورى، وبالتالي مجلس الوزراء لتقييمها وتحديد ما تم إنجازه وما ينبغي عمله. هكذا نصنع وطننا مخطط له يستثمر موارده بكل كفاءة وفعالية، ويتجنب أخطار المستقبل والمتغيرات التي قد تأتي من حيث لا ندري.
وأخيرا إن الإخلاص للوطن يتبلور في أفكارنا وانتقاداتنا الإيجابية التي يقصد منها التغيير والإصلاح، بما يخدم المصلحة العامة دون أهداف شخصية أو مغرضة وجل من لا يخطئ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق